قمع الاحتجاجات الطلابية في أمريكا- انتهاك للحرية الأكاديمية وتقويض لحقوق الإنسان

المؤلف: د. محمود الحنفي09.09.2025
قمع الاحتجاجات الطلابية في أمريكا- انتهاك للحرية الأكاديمية وتقويض لحقوق الإنسان

مع استمرار الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة المحاصر، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية حراكًا طلابيًا واسع النطاق تضامنًا مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، انطلقت هذه المظاهرات من عدة جامعات مرموقة وعريقة، منها على وجه الخصوص: جامعة هارفارد العريقة، جامعة كولومبيا المرموقة، بالإضافة إلى جامعة نيويورك الشهيرة.

ما ميز هذه الاحتجاجات هو سلميتها التامة، حيث صدحت حناجر الطلاب بشعارات تندد بأعمال الإبادة الجماعية المرتكبة، و مطالبة بوقف فوري للدعم العسكري الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، بالإضافة إلى الدعوة الصريحة لمقاطعة الشركات والمؤسسات المتورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الانتهاكات الصارخة.

الأمر المثير للقلق والانتباه في هذا السياق هو الرد القمعي العنيف الذي واجهه هؤلاء الطلاب المتظاهرين، وخصوصًا الطلاب الدوليين منهم. فقد قام خبراء مستقلون تابعون للأمم المتحدة بتوثيق هذه الانتهاكات في تقرير رسمي صدر بتاريخ 17 مارس/آذار 2025، حيث أكدوا فيه أن "عددًا من الطلاب الدوليين المقيمين في الولايات المتحدة قد تعرضوا بالفعل للترحيل القسري أو التهديد الصريح به، وذلك بسبب مشاركتهم الفعالة في الاحتجاجات السلمية الداعمة للقضية الفلسطينية العادلة"، مشددين على أن هذه الإجراءات القمعية تُشكّل "انتهاكًا صارخًا وغير مبرر لحقوقهم الأساسية في حرية التعبير والتجمع السلمي، وتخلق بيئة معادية للحرية الأكاديمية الضرورية، وتزيد من حدة الانقسام و التوتر بين الطلاب والأساتذة على حد سواء".

في خضم هذا القمع الممنهج، يطرح البعض سؤالًا يبدو بريئًا في ظاهره ولكنه يحمل في طياته مغالطات كبيرة: لماذا يتظاهر الطلاب من الأساس؟ دعوا غزة وشأنها ودعونا نكمل مسيرتنا التعليمية بسلام وأمان.

لكن هذا السؤال يتجاهل بشكل كامل العلاقة الوثيقة والجوهرية بين المعرفة والضمير الإنساني الحي. فالطلاب لا يتظاهرون هروبًا من واجباتهم الدراسية، بل لأنهم يدركون تمام الإدراك أن التعليم الخالي من أي موقف أخلاقي هو مجرد تفريغ للمعرفة من كل معانيها السامية.

الجامعات ليست مجرد مصانع لإنتاج الشهادات والدرجات العلمية، بل هي فضاءات واسعة للنقد البناء والمساءلة الحقيقية. فعندما يشاهد الطالب بأم عينيه كيف يُقتل إخوانه وزملاؤه في غزة، وأن بلده المضيف يقدم الدعم المالي واللوجستي لآلة القتل الهمجية، فإن الصمت في هذه الحالة يصبح تواطؤًا واضحًا مع الظلم، والاحتجاج يصبح تعبيرًا صادقًا عن عمق إنسانيته، وليس خروجًا على الإطلاق عن دوره الأكاديمي والتعليمي.

إن من يطالب الطلاب بالصمت القاتل حفاظًا على "الهدوء الأكاديمي" المزعوم، يتجاهل عن عمد أن هذا الهدوء نفسه قائم على امتيازات طبقية غير متاحة لغيرهم من المحرومين، وأن اللامبالاة ليست حيادًا على الإطلاق، بل هي اختيار واع لجانب الظالم على حساب المظلوم.

وبناءً على ما سبق، فإن التظاهر الطلابي ليس مجرد ردة فعل عاطفية أو انفعالًا سياسيًا عابرًا، بل هو فعل تربوي وتقويمي بامتياز، يعيد تعريف الجامعة كمكان للكرامة الإنسانية المصانة لا للامتثال الصامت الأعمى.

انتكاسة حرية التعبير في الحرم الجامعي الأميركي

إن حرية التعبير المكفولة وحرية التجمع السلمي هما ليستا مجرد بنود قانونية شكلية في المعاهدات والمواثيق الدولية، بل تمثلان حجر الزاوية الأساسي في صرح حقوق الإنسان الشامخ، ومؤشرًا دقيقًا على مدى التزام الدول بالمبادئ الديمقراطية الراسخة. بيدَ أن الخطر الحقيقي لم يعد يكمن في غياب هذه النصوص القانونية، بل في تمييعها المتعمد وتفسيرها بشكل انتقائي يفرغها تمامًا من مضمونها الحقيقي وجوهرها الأساسي.

حين تقوم دولة عظمى كالولايات المتحدة، وهي طرف أساسي في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بتهديد الطلاب – ولا سيما الطلاب الدوليين – بسبب مشاركتهم المشروعة في احتجاجات سلمية، فهي بذلك لا تنتهك التزاماتها الدولية فحسب، بل تبعث برسالة مقلقة وخطيرة إلى العالم أجمع مفادها أنه حتى "الحق المقدس" في التعبير عن الرأي هو حق قابل للإقصاء والتهميش متى تعارض بشكل أو بآخر مع مصالح السلطة الحاكمة أو الرواية الرسمية المهيمنة.

هذا التراجع الخطير يهدّد بشكل مباشر الجيل الأول من الحقوق الأساسية، الذي كرس الحريات المدنية والسياسية، ويفتح الباب واسعًا أمام تآكل بقية الأجيال الحقوقية الأخرى، بدءًا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصولًا إلى الحقوق البيئية والرقمية.

فكيف يُمكن الترويج لقيم العدالة المناخية أو التنمية الشاملة المستدامة، في الوقت الذي يُقمع فيه الصوت الحر ويُراقب بشدة التفكير النقدي المستقل؟ وإذا سُحقت حرية التعبير بوحشية، فهل تبقى هناك أي حقوق أخرى قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، أم تتحوّل المواثيق والعهود الدولية إلى مجرد نصوص قانونية جوفاء لا قيمة لها؟

في هذا السياق الحساس، تظهر إشكالية الحرية الأكاديمية جلية وواضحة. فمن المؤسف حقًا أن تُمارَس مثل هذه الانتهاكات الصارخة في مؤسسات تعليمية يُفترض أنها ملاذ آمن للنقاش الحر والتعددية الفكرية.

فوفقًا للتعريف الرسمي لليونسكو، تقوم الحرية الأكاديمية على حق الطلاب والباحثين في البحث والتعبير عن آرائهم بحرية تامة دون خوف من أي قمع أو ترهيب. لكن التضييق المستمر والملاحقة القضائية على خلفية مواقف سياسية معينة، وخصوصًا تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية العادلة، يكشف بوضوح عن هشاشة هذه المبادئ حتى في البيئات التي تُعد رموزًا للحرية الفكرية، مثل الجامعات الأميركية المرموقة.

إن طرد الطلاب أو تهديدهم بالترحيل، خاصة الطلاب الأجانب والعرب منهم، لا يُعد خرقًا واضحًا للمادتين 19 و21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فحسب، بل يُعد أيضًا مؤشرًا خطيرًا على تحوّل الفضاء الجامعي إلى ساحة مراقبة دقيقة وصمت مطبق، وتكريس لعقلية تمييزية بغيضة تنتهك بشكل سافر المادة 2 من العهد الدولي.

وما يزيد من خطورة هذا النهج القمعي أن الولايات المتحدة تُعد مرجعية أكاديمية عالمية، وبالتالي فإن أي تقويض لحرية التعبير في جامعاتها العريقة يُقوض بشكل مباشر مصداقية المنظومة الحقوقية الدولية بأكملها.

من هنا، لا يعود الأمر مجرد مسألة داخلية أميركية بحتة، بل هو اختبار حقيقي لمتانة النظام الدولي لحقوق الإنسان. فالنضال من أجل فلسطين لا يُخاض فقط في ساحات النزاع المسلح، بل أيضًا في قاعات الجامعات، وفي أروقة المحاكم، وعلى منابر الفكر الحر، حيث تُختبر المبادئ الكبرى في وجه القمع والرقابة.

إن استعادة الحرية الأكاديمية وحرية التعبير ليستا ترفًا قانونيًا أو مطلبًا ثانويًا، بل هو واجب أخلاقي وجماعي ملح لحماية مستقبل التفكير الحر في زمن يتسع فيه الخوف وتضيق فيه المساحات المتاحة للتعبير عن الرأي بحرية.

الواقع الخفي وراء الحضور الطلابي العربي والمسلم في أميركا

تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد الطلاب الدوليين الذين يدرسون حاليًا في الولايات المتحدة، قد بلغ حوالي 1.1 مليون طالب وطالبة في العام الدراسي 2023-2024، وهو رقم قياسي يعكس بوضوح استمرارية جاذبية النظام الجامعي الأميركي على المستوى العالمي.

غير أن هذا الرقم، وإن بدا مطمئنًا في ظاهره، يخفي تحته واقعًا مقلقًا من التوجس والخوف المتنامي، خاصة في صفوف الطلاب العرب والمسلمين، الذين أصبحوا يشعرون بأن البيئة الأكاديمية لم تعد حيادية أو آمنة كما كانت في السابق.

وفيما يخص الطلاب العرب تحديدًا، فإن آخر رقم رسمي متوفر يعود للأسف إلى العام الدراسي 2018-2019، حيث بلغ عددهم آنذاك أكثر من 81 ألف طالب وطالبة. ورغم قِدم هذا الرقم نسبيًا، فإن التقارير الأحدث لم تُصدر حتى الآن تحديثًا شاملًا خاصًا بالطلاب العرب، ما يثير تساؤلات مشروعة حول التراجع الملحوظ في الشفافية أو الاحتمال الوارد لانخفاض الأعداد فعلًا بفعل المخاوف الأمنية المتزايدة.

ومع ذلك، تشير معطيات "الأبواب المفتوحة" لعام 2023 إلى أن المملكة العربية السعودية وحدها قد سجلت أكثر من 15.989 طالبًا في العام الدراسي 2022-2023، رغم وجود انخفاض طفيف بنسبة 12.2% عن العام السابق، وهو ما قد يعطي مؤشرًا جزئيًا على تراجع الإقبال العربي على الدراسة في الجامعات الأميركية.

أما على مستوى الهوية الدينية، فتُقدّر أعداد المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة بحوالي 3.45 ملايين شخص، وهي كتلة بشرية كبيرة تضم عددًا متزايدًا من الطلاب، ما يجعل من البيئة الجامعية ساحة اختبار حقيقية لمدى احترام التعدد الثقافي والديني.

ومع تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا والقيود الأمنية المشددة، يزداد شعور الطلاب المسلمين بأنهم تحت المراقبة الدائمة، لا سيما إذا شاركوا في أي نشاط سياسي، أو عبّروا عن أي موقف إنساني نبيل تجاه قضايا عالمية كبرى.

من جهة أخرى، تشكل تكاليف المعيشة الباهظة التي تتراوح بين 15.000 و24.000 دولار سنويًا، إضافة إلى الرسوم الدراسية المرتفعة التي قد تصل إلى 52.000 دولار، عبئًا ماليًا كبيرًا على الطلاب الأجانب، وهو ما يجعلهم يتوقعون في المقابل بيئة أكاديمية آمنة ومستقرة، وحرية فكرية مصانة، وتكافؤ فرص حقيقي وواقعي.

وعندما تهتز هذه القيم الأساسية بفعل سياسات قمعية أو تمييزية عنصرية، يصبح الاستثمار الأكاديمي في أميركا موضع شك حقيقي، وقد يدفع ذلك العديد من الطلاب الموهوبين إلى التوجه نحو دول أخرى مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة، اللتين تقدمان بدائل تعليمية أقل تكلفة وأكثر استقرارًا فيما يتعلق بالحريات العامة.

نحو استعادة الحرية الأكاديمية

في ضوء ما سبق ذكره بالتفصيل، يصبح من الضروري أن تعيد الجامعات الأميركية، ومعها السلطات المعنية، النظر بشكل جدي في السياسات الأمنية المتبعة والممارسات الإدارية التي تُشعر الطلاب الأجانب – خاصة الطلاب العرب والمسلمين – بأنهم ضيوف مؤقتون لا طلاب علم باحثون عن المعرفة. يجب أن تتجاوز المؤسسة الأكاديمية دورها التعليمي النمطي لتؤدي دورًا أخلاقيًا وإنسانيًا فعالًا، يعيد الاعتبار لحرية التعبير كجزء لا يتجزأ من العملية التربوية المتكاملة، وليس كتهديد وجودي لها.

  • أولًا، ينبغي على الجامعات أن توفر ضمانات قانونية واضحة وصريحة تحمي بشكل كامل حق الطلاب في المشاركة السياسية السلمية، دون أي تهديد أو تبعات أكاديمية أو أمنية وخيمة.
  • وثانيًا، لا بد من إرساء آليات دعم نفسي وقانوني متكاملة للطلاب الدوليين، لا سيما في لحظات التوتر السياسي المتزايد، باعتبارهم الفئة الأكثر هشاشة وضعفًا أمام الخطاب العنصري المتطرف أو السياسات التمييزية الجائرة. كما يُستحسن إنشاء وحدات مستقلة متخصصة داخل الجامعات تُعنى بشكل أساسي برصد أي تجاوز لحقوق الطلاب وتوثيقها بدقة والتدخل الفوري عند الحاجة.
  • وأخيرًا، فإن مسؤولية صون صورة الولايات المتحدة كوجهة تعليمية عالمية مرموقة لا تقع على عاتق الجامعات وحدها، بل تقع أيضًا على صانعي السياسات الذين ينبغي أن يعوا أن تآكل الحرية الأكاديمية يُقوّض بشكل خطير مصداقية النموذج الأميركي بأكمله، ويغذي بشكل مباشر بدائل أكثر جذبًا وقبولًا على الساحة الدولية. وإذا لم يكن التعليم مساحة آمنة للحرية الفكرية، فأين تكون إذن؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة